منذ ظهور الحداثة الشعرية في العراق نهاية اربعينيات القرن الماضي التي نظر لها عدد من الشعراء العراقيين امثال ، نازك الملائكة وبدر شاكر السياب عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ، والى فترة ليست بعيدة ، ظل هذا الظهور مثار جدل واحتدام بين رواد قصيدة التفعيلة والمدافعين عن قصيدة العمود وايقاع أوزانها الخليلية من جهة ،والجيل الذي أعقب الرواد – جيل الستينيات – من جهة أخرى ، وكان لكل من هؤلاء المحتدمين حججه وذرائعه في الدفاع عن مشروعه الشعري .
وقد تصدت دراسات ومقالات نقدية كثيرة للتجربة الشعرية الحديثة ، لابل حتى الرواد أنفسهم نظروا لولادة الشكل الشعري الجديد ، وبخاصة نازك الملائكة في كتابها "قضايا في الشعر المعاصر" ، وضمن هذا الجدل والتنظير لهذه التجربة صدر مؤخرا كتاب بعنوان "مقالات في الشعر العربي المعاصر" للناقد والباحث الاكاديمي د. محمد حسين الاعرجي ، الذي أثار بحثه الاكاديمي لنيل الدكتوراه "الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي " جدلا مثيرا على قاعة المناقشة في آداب جامعة بغداد عام 1977. يضم كتاب الاعرجي الصادر في بغداد عن دار الشؤون الثقافية في بغداد فضلا عن التقديم ، فصلين، الاول " دراسات عامة " احتوى على الدراسات : التدوير وتكرار التفعيلة ،و الشعر والتأثيرات الشعبية ،والغموض في الشعر العربي ، أما الفصل الثاني "دراسات تطبيقية" فقد احتوى على "ملامح مالك بن الريب" ،و"الثورة الجزائرية في شعر الجواهري والسياب" "،و"قراءة في انشودة المطر للسياب " .
يطرح الاعرجي في بداية دراسته "التدوير وتكرار التفعيلة" رأيا يقول فيه أن التجديد في الشعر العربي كان استجابة لمتغيرات عصرية ومجتمعية ، لكنه من جهة اخرى هو محاولة تغلب الشاعر على احساسه بالعجز ازاء انجازات شعرية ابداعية لشعراء سابقين عليه ،يقول الاعرجي " وكان العقاد وشكري والمازني يشعرون بضيق كبير من شوقي ،وكان السياب – بوجه خاص – يشير الى انه لايريد أن يكون ظلا للجواهري أو نسخه عنه ".
ربما يكون الاعرجي في هذا الرأي ،قد جانب شوقي في مصر والجواهري في العراق ، لانهما عملاقان –لاشك في ذلك- شعريان ، لكن النبوغ والابداع الشعريين ،لايقفان عند هذا الشاعر أو ذاك ، في أي عصر من العصور ،او بين اية أمة من الامم ، فلذلك أقول، ان الحداثة الشعرية العربية ،التي انطلقت من العراق ، من خلال روادها لم تكن محض احساس بالعجز ازاء الشعراء الاخرين ،بل كانت نتيجة حروب وكوارث و تحولات وهزات حضارية ، ضربت العالم والمنطقة ، فضلا عن ذلك ، كان لشعراء الحداثة ، مرتكز موهبي ومجعيات ثقافية رصينة ومنوعة ،والا لما كان لهم أن يؤسسوا لهذه الريادة الشعرية ،التي تمكنت من ازاحة البنى الشكلية القديمة للقصيدة العربية ، وتقديم رؤى شعرية موضوعية للعالم والاشياء والمعاني والحياة ،والسجال والجدل يطول في هذه المسألة ، خاصة ونحن بصدد تقديم قراءة لكتاب الدكتور الاعرجي.
لكن الاعرجي ، يؤكد ان ما يهمه من ذلك احساس جيل الستينيات الشعري بضرورة التفرد والتميز عن جيل الرواد الشعري او من جايلهم ، حيث اشتغل هذا الجيل على التجريب دون كلل او ملل ، ومن بين أشكال التجريب الكثيرة ، مارسوا كتابة" القصيدة المدورة" ، مشيرا الى ان التدوير الشعري في القصيدة العربية لم يكن جديدا فالتدوير "في الشكل القديم ذي الشطرين هو انشطار كلمة واحدة على نهاية صدر البيت وبداية عجزه كقول أبي تمام الطائي :
وكأن العناق يوم الوغى أو لى باسيافهم من الاغماد
فاذا ضلت السيوف غداةالـ روع كانت هواديا للهوادي"
ان التدوير في هذين البيتين ،كما يذهب الاعرجي ، هو ان أبا تمام دور في البيت كلمة " أولى" فجعل" أو " في نهاية صدر البيت و"لى" في بداية عجزه ،ودور في البيت الثاني كلمة " الروع "، وهناك تدوير من نوع آخر يطلق عليه " الاغرام " ،وهو تدوير الكلمة الاخيرة من البيت للشاعر مع صدر البيت الذي يليه ، ثم يأتي الاعرجي بنماذج من التدوير في الشعر العربي الحديث ، عند أودونيس ،وخليل الخوري ، مشيرا الى تطوره على الصعيد الشكلي لدى أودونيس وبخاصة في قصيدته ،هذا هو اسمي " التي ألغى فيها الشاعر القافية تماما .
ويتناول الاعرجي في "الشعر والتأثيرات الشعبية "اللغة المحكية التي يتعامل معهاالشاعر المعاصر في الواقع المعيش ، واللغة –الابداعية – التى يوظفها لقصيدته الشعرية ، دون ينسى اهمية ، المرجعية الثقافية والخبرة والتجربة ، فضلا عن مكتسى الاشكال اللغوية الناتج عن تلك الخبرة المتراكمة ، ثم ليصبح للتأثير الشعبي سطوة ليس للشاعر بد منها ، ففي قراءته لبيت الشاعر الشيخ علي الشرقي من قصيدته "عصفور الغراف "المنظومة عام 1932 :وما أسفي الا على النور ، انها .......... فضائح فيما بينها انتشر النور
فيا موقدين الكهرباء نتفرجوا..............الى الان عند القوم يوقد "بعرور"
يقول الاعرجي :"واستعمال المرحوم الشرقي لفظة "البعرور "العامية وهي تعني قضلات الماشية التي يستعملها الفلاحون عند يباسها في مواقدهم ، اقول استعمال هذه اللفظة بعاميتها من شانه أن يثير المفارقة في نفس القارىء بين طريقتين في الاضاءة والمعيشة ، احدهما متقدمة جدا ،وثانيهما بدائية ومتخلفة ،ومن شان اثارة مثل هذه المفارقة المرة تنبيه الاذهان –عن طريق لسخرية – الى ما يعانيه الفلاحون العراقيون من تخلف وبؤس .
ويتناول في الاتجاه ذاته تجربة الشاعر الجواهري ،مستشهدا بقصيدته "القرية العراقية " التي نظمها الشاعر عام 1932 والتي يتعرض من خلاله الى طبيعة العلاقات العاطفية في هكذا بيئة ريفية ، موظفا من المحكيات الشعبية التي تتماس مع بعض تلك العلاقات ، فيرى في بيت الجواهري من القصيدة المشار اليها :
ليس فينا –والحمد لله- حتى ...............الان بيت اناؤه مقلوب
ان " فكرته وبعض عبارته مأخوذ من العامية العراقية ، فمن عادات اهل الريف في العراق انهم اذا هربت احدى فتياتهم مع من تحب ناو انها هربت سترا لفضيحتها امام القرية ،أقول من عادادتهم أنهم يقلبون اواني القهوة في مواقدها حتى تكون فوهاتها على الرماد ، ويجدون في طلب ابنتهم حتى يعثروا عليها ..........، ومنهنا فعبارة "اناؤه مقلوب " كناية عما يكون من بين الرجل والمرأة من علاقة غير شرعية ".
ويرى الاعرجي ان " هذه المؤثرات الشعبية ،لم تكن ظاهرة تلفت لللنظر الا بعد ظهور حركة الشعر الحر "، مؤكدا ان السياب كانت له محاولات جرئية في توظيف هذا الموروث ، مشيرا الى قصيدته "المومس العمياء" والتي يقول فيها "وتلوب اغنية قديمه / في نفسها وصدى يوشوش يا سليمة يا سليمه
نامت عيون الناس ،آه فمن لقلبي كي ينيمه؟"، فواضح هنا ان السياب يوظف مقطعا من اغنية عراقية قديمة ظلت الى اليوم متداولة بين ترديد عشاقها .
ويظن صديقي العزيز الدكتور محمد حسين الاعرجي ان السياب حين كتب مقدمة قصيدته " ارم ذات العماد " كان يهدف الى تضليل المتلقي ، وصرف نظره عن المصدر ، وانا هنا أسائل استاذي الاعرجي ، ماالذي دعا السياب الى هذا الهدف التضليلي ؟.
اما المبحث الثالث من الكتاب "الغموض في الشعر العربي" ، فقد خصصه الاعرجي لدراسة ظاهرة الغموض في الشعر العربي ، مبتدئا باجابة أبي تمام الشهيرة حينما سئل :"لم تقول مالايفهم "، فاجاب ببدهية وذكاء :"وانت لم لاتفهم ما يقال "،مؤكدا ان الغموض قد يؤدي الى القطيعة بين الشاعر ومتلقيه من الجمهور ، هنا يرى الاعرجي انه من الضروري تتبع اشكالية الغموض ، ليستنتج في النهاية ،اي الطرفين على حق ، الشعراء ،ام جمهور المتلقين .وللكشف عن هذه الاشكالية ياتي بشواهد شعرية عربية قديمة،وحديثة ، محلللا مواطن الغموض في هذه القصيدة او تلك ،فضلا عن ذكره ان رؤى الشاعر في بعض الاحيان قد يعتروها الغموض اصلا .
اما في باب "دراسات تطبيقية " ، فيتناول الاعرجي ، ملامح "مالك ابن الريب " ، وهي دراسة لديوان الشاعر الراحل يوسف الصائغ والذي حمل العنوان المذكور نفسه والذي يضم ،اربع قصائد هي : رياح بني ماون ، انتظريني عند تخوم البحر ، سفر الرؤيا . ، وحول تجربة الصائغ في هذه المجموعة الشعرية يرى الاعرجي "كتبت هذه القصيدة في حزيران عام 1967 ، وهي تقف عند اجواء الهزيمة ،موزعة بين التامل والغضب ،وموقفها طبيعي تفرضه أجواء ظروف الشاعر آنذاك ، فقد كان سجينا وقت كتابتها . وعلى هذا فهو تحمل وزر الهزيمة دون ان يشارك حتى برأي في الحرب ، شانه في هذه شأن كل الشعب العربي . وعند هذه النقطة تكتسب القصيدة شموليتها ، فتنطلق من الخاص الى العام ،ومن وجدان الشاعر الى الوجدان الجماعي :
رياح بني مازن ايقظتني
على موهن فز روحي لها :ها انا واختنقت واخجلني سور سجني ".
بهذه التوطئة الاختزالية ، يمضي الاعرجي ،موظفا قدراته التحليلية ، فضلا عن ثقافته الاكاديمية الثرة ، لقراءة قصيدة "رياح بني مازن" ، مشيرا الى توظيف الثقافة المسيحية ، واستخدامه للاشارات القرآنية ، كاشفا عن رمزية المرأة فيها ، "المرأة هي رمز للثورة بما فيها من خصب وعطاء " .
اما الدراسة الثانية فيخصصها الاعرجي ، لموضوعة الثورة الجزائرية ،كما وردت ،او كما تناولها الشاعران ، الجواهري والسياب ، موضحا ان للجواهري في هذه الموضوعة قصدتين ، هما ، "الجزائر" المكتوبة عام 1956 ،و"بكرت جلق " ، المكتوبة ، كما يرى الاعرجي في العام نفسه ، الذي يقدم لهما معالجة موضوعية ، تأريخية ، محللا مقاطعهما الشعرية ، وكاشفا عن كل مدلولاتهما الانسانية والحياتية وما تنشدان من تحقيق قيم نبيلة .
اما السياب ، كما يقول الاعرجي ، فله ثلاث قصائد في الثورة الجزائرية هي : "الى جميلة بوحيرد "و" رسالة مقبة " و" ربيع الجزائر " ، وهنا ، يتتبع الكاتب ، هذه القصائد من الناحية التاريخية ، رابطا شرارة اندلاع الثورة بانتماء السياب الى اليسار العراقي أعوامئذ .
اما الدراسة الثالثة والاخيرة ، فقد كانت قراءة في " انشودة المطر " للسياب ، وهنا تجد الاعرجي يتقصى ، كل شاردة وواردة في هذ القصيدة ، مشتغلا على تحليل صورها ومرموزاتها ، بقدرة الباحث الموضوعي ، والناقد المتمكن من أدواته النقدية ، بنفس ذائقي جمالي عال ، ويغور عميقا في الكشف عن معاناة الشاعر وكيف ينظر الى العراق من خلف الحدود حينما كان مغتربا في الكويت :
"اتعلمين اي حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء كالدم المراق ،كالجياع ،كالحب ،كالاطفال ، كالموتي – هو المطر ".
الموضوع الأصلي :
المقالات الشعريه في العراق الكاتب :
abadullahالمصدر :
منتديات أصحاب كول