كثيرا ما يثير القارئَ أثناء ممارسته فعل القراءة لديوان شعري ما سؤال يدق باب ذاكرته ويستعجل الجواب : لماذا كل هذا الغموض في البوح؟
وقليلا جدا ما يطرح نفس القارئ على نفسه سؤالا عند قراءته قصيدة شعرية قديمة لماذا كل هذا الوضوح في قول الشعر؟ هل يمكن القول أن شاعرا ما أكثر شاعرية من الآخرين في تقدمه عند شحذ قصائده بكلمات متنافرة مبعثرة هنا وهناكتاركة لجامها بيد القارئ يجمعها ويعيد تركيبها بعد التفكيك بأصعب الطرق المتكلفة إجهادا للفكر والعقل معا,وهل من المفيد شعرا أن نجد شاعرا يتأبط قصيدة عمودية ذات منحى تراثي يجمع أثاث الكلمات القديمة الغريبة المتنافرة أحيانا موسيقيا ليملأ بها تعاريج ريشته الشعرية في الصدور والأعجاز حتى نشهد له بذائقته الشعرية وبحسه المرهف وبتفوقه في عالم الشعر المتلاطم الأمواج.
من الوهلة الأولى وعند تأملنا لقصائد الشعر الحر وما يسمى بقصيدة النـثر نلاحظ غلبة شعرية الإنكسار التي تستند على إدراج المعنى المتوخى داخل متـنافر من الألفاظ غير مقصودة في جوهرها من حيث تركيب الكلمات التي لا تؤدي معنى المؤول في حد ذاتها فترمى هذه الكلمات على أسماع وأفهام القارئ لتعــمل فيه ضرورة تجميع مداركه ومعارفه (أساطير ومضات إشارات علامات) كي يعــيد تركيب المعنى المراد أو المحتمل من هذا الإنكسار في بوثقة متلائمة مفهومة ينجلي بها أثر الغموض الذي تركته الألفاظ المتنافرة في ذهن القارئ لتشرق من خـلالها صورة الوضوح الجلي لما يريد أو يحتمل الشاعر قوله.
أما عند تأملنا للشعر القديم (المعلقات نموذجا) نجد الغموض حاضرا متواجدا عندما يفرغ الشاعر آماله وآلامه الشعرية في أبيات لا تكاد تجد فيها كلمة مفهـومة في لغة العصر. فينطـبق غــيم الغموض على فهم القارئ ويغيب المعنى المراد وراء ضباب الكلمات. ولنتأمل مثلا هذا البيت من معلقة طرفة بن العبد:
كأن عُلوب النَّسْع في دَأياتها موارد من خَلقاء في ظهْر قَرْدد
وأكثر منه غموضا إذا لم نفك رموز الألفاظ قوله:
وأتلعَ نُهَّاض إذا صعدت به كسُكّان بَوْصِيّ بِدجلة مِصعد
وهكذا في جل معلقة طرفة نلاحظ تهاطل الكلمات الغريبة التي تحتاج منا الى قاموس بن منــظور علنا نفهم المعاني بعد فك رموز الألفاظ. إذا يـبدو لـنا من خلال هذه المقاربة البسيطة أن الشعر الحر والنثري يسير في المنحى المــعاكس لشعر القديم فبينما يرتكز الشعر الحر ومعه النثري على شعرية الإنكسار وغموض المعنى المتساير مع الكلمات البسيطة المفهومة بعينها الغامضة بتواجدها جـنبا إلى جنب في تكوين جملة ضبابية يتوجب طرحها وإعادة فكها لأجل استنتاج المــعنى المراد والمؤول القريب من الإحتمالات,نجد الشعر القديم يستند على وضوح المعنى ولكن بعد فك طلاسم الألفاظ القديمة التي أصبحت في عصرنا هذا قليلة التداول إن لم نقل منعدمة:
الشعر الحر ومعه النثري—غموض المعنى—وضوح الكلمات في مدلولها الذاتي والمنفرد.
الشعر القديم ———وضوح المعنى—-غموض الكلمات في مدلولها التاريخي القديم.
وهكذا نستنتج أن الشعر بمكونيه الحــر و النثري من جهة والقديم العمودي من جهة أخرى يختلفان من حيث التركيب الشـكـلي والدلاليولكنهـما يجتمعان من حيث امتلاكهما لخاصية الوضوح والغموض والتي تـنحى في الإتجاه المعاكس لكل منهماوتبقى جمالية الشعر في استجلابه لعوالم متناضقة تجعله يتميز عــن الكلام العادي بسحر الكلمة وعذوبة المعنى حيث قيل قديما: إن من البيان لسحرا.
الموضوع الأصلي :
شعرية القصيد بين الوضوح والغموض في الشعر العربي الكاتب :
ظل القمرالمصدر :
منتديات أصحاب كول